فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

سورة التين:
{وَالتين والزيتون (1)}
أقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة.
والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم، وفي الحديث: مدح التين وأنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس.
وقال تعالى: {وشجرة تخرج من طور سيناء} قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي.
وقال كعب وعكرمة: أقسم تعالى بمنابتهما، فإن {التين} ينبت كثيراً بدمشق، و{الزيتون} بإيليا، فأقسم بالأرضين.
وقال قتادة: هما جبلان بالشام، على أحدهما دمشق وعلى الآخر بيت المقدس، انتهى.
وفي شعر النابغة ذكر التين وشرح بأنه جبل مستطيل.
قال النابغة:
صهب الظلال أبين التين عن عرض ** يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبها

وقيل: هما مسجدان، واضطربوا في مواضعهما اضطراباً كثيراً ضربنا عن ذلك صفحاً.
ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام، وهو الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه.
ومعنى {سينين}: ذو الشجر.
وقال عكرمة: حسن مبارك.
وقرأ الجمهور: {سينين}؛ وابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء: بفتح السين، وهي لغة بكر وتميم.
قال الزمخشري: ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب، انتهى.
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن: {سيناء} بكسر السين والمد؛ وعمر أيضاً وزيد بن علي: بفتحها والمد، وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب.
وقال الأخفش: {سينين}: شجر واحده سينينة.
{وهذا البلد الأمين}: هو مكة، وأمين للمبالغة، أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين، وأمانته حفظه من دخله ولا ما فيه من طير وحيوان، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.
ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل.
كما وصف بالآمن في قوله: {حرماً آمناً} بمعنى ذي أمن.
ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين.
فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام ومولد عيسى ومنشأه، والطور هو المكان الذي نودي عليه موسى عليه السلام، ومكة مكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين.
{في أحسن تقويم}، قال النخعي ومجاهد وقتادة: حسن صورته وحواسه.
وقيل: انتصاب قامته.
وقال أبو بكر بن طاهر: عقله وإدراكه زيناه بالتمييز.
وقال عكرمة: شبابه وقوته، والأولى العموم في كل ما هو أحسن.
و{الإنسان} هنا اسم جنس، و{أحسن} صفة لمحذوف، أي في تقويم أحسن.
{ثم رددناه أسفل سافلين}، قال عكرمة والضحاك والنخعي: بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئاً.
أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك.
وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضاً: {أسفل سافلين} في النار على كفره، ثم استثنى استثناء متصلاً.
وقرأ الجمهور: {سافلين} منكراً؛ وعبد الله: {السافلين} معرفاً بالألف واللام.
وأخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتفاء ألفاظه فقال: في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه، ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية، إذ رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار. وأسفل من سفل من أهل الدركات.
أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن جلده وكان بضاً، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء فيه، فمشيه دلف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف. انتهى، وفيه تكثير.
وعلى أن ذلك الرد هو إلى الهرم، فالمعنى: ولكن الصالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم.
وفي الحديث: «إذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة»، وفيه أيضاً: «أن المؤمن إذا رد لأرذل العمر كتب له ما كان يعمل في قوته»، وذلك أجر غير ممنون وممنوع مقطوع، أي محسوب يمن به عليهم.
والخطاب في {فما يكذبك} للإنسان الكافر، قاله الجمهور، أي ما الذي يكذبك، أي يجعلك مكذباً بالدين تجعل لله أنداداً وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل؟ وقال قتادة والأخفش والفراء: قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فإذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي توجب النظر فيها صحة ما قلت.
{أليس الله بأحكم الحاكمين}: وعيد للكفار وإخبار بعدله تعالى. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَالتين والزيتون (1)}
التفسير:
إن {التين والزيتون} كيف أقسم الله بهما من بين سائر المخلوقات الشريفة؟ للمفسرين فيه قولان: فعن ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذان من خواص التين أنه غذاء فاكهة ودواء لأنه طعام لطيف سريع الهضم ما بين الطبع، ويخرج بطريق الرشح ويقلل البغلم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال. وروي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه «كلوا فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس» وعن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه: التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج. ومن خواصه أن ظاهره كباطنه ماله قشر ولا نواة له وأنها شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى تأتي بالثمرة ثم بالنور خلاف المشمش واللوز. ونحوهما، وسائر الأشجار كأرباب المعاملات في قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» لأنها تلبس نفسها أولاً بورد أو ورق ثم تظهر ثمرتها، وشجرة التين كالمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بغير ثم يبدأ بنفسه كما قال: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9] وإنها تعود ثمرتها في العام مرة أخرى، وإنها في المنام رجل خير وغنى فمن رآها نال خيراً وسعة، ومن أكلها رزقه الله أولاداً.
ويروى أن آدم عليه السلام تستر بورقها حين نزع عنه ثيابه فلما نزل وكان مستوراً بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعهما بعض ورق التين فرزقها الله الجمال والملاحة صورة، والمسك وطيبة معنى، وحين تفرقت الظباء ورأى غيرهن منها ما أعجبها جاءت من الغد على أثرهن فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال والملاحة دون طيب المسك، وذلك أن الطائفة الأولى جاءت إلى آدم لا لأجل الطمع، والطائفة الثانية جاءت للطمع سراً وإلى آدم ظاهراً، فلا جرم غير ظاهرها دون باطنها. وأما الزيتون فإنه من الشجرة المباركة وهو فاكهة من وجه ودواء من وجه كما تقدم وصفه في سورة النوّر.
قال مريض لابن سيرين: رأيت في المنام كأنه قيل لي كل اللاءين تشفى فقال: كل الزيتون فإنه لا شرقية ولاغربية.
وقيل: من أخذ ورق الزيتون في النوم استمسك بالعروة والوثقى.
فهذه المصالح والمنافع هي التي جوزت الإقسام بهما.
القول الثاني: إنه ليس المراد بهما هذه الثمرة ثم اختلفوا.
فعن ابن عباس في رواية: هما جبلان في الأرض المقدسة يقال لهما طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا {التين والزيتون}. وهما منشأ عيسى ومبعثه ومبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل، كما أن {طور سينين} مبعث موسى، و{البلد الأمين} مبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد: {التين} مسجد دمشق، و{الزيتون} مسجد بيت المقدس.
وقيل: {التين} مسجد الكهف، و{الزيتون} مسجد إيليا.
وعن ابن عباس أيضاً: {التين} مسجد نوح على الجودي، و{الزيتون} مسجد بيت المقدس، وعن كعب: أن {التين} دمشق، و{الزيتون} بيت المقدس. عن شهر بن حوشب: {التين} الكوفة و{الزيتون} الشام.
وعن الربيع: هما جبلان من بين همذان وحلوان، وأما {طور سينين} فالطور جبل موسى عليه السلام و{سينين} الحسن بلغة الحبشة.
وقال مجاهد: المبارك وقال الكلبي ومقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط.
قال الواحدي: الأولى أن يكون {سينين} اسماً للمكان الذي فيه الطور سمي بذلك لحسنه أو لبركته، ثم أضيف إليه الطور للبيان. لإضافته إليه وسميت مكة أميناً لأنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين وما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون (فعيلاً) بمعنى (مفعولاً) لأنه مأمون الغوائل كما جعله آمناً لكونه إذا أمن أقول: من المعلوم أن الإقسام ينبغي في باب البلاغة أن يكون مناسباً وكذا القسم والمقسم عليه، وكان الله سبحانه أقسم بالمراتب الأربع التي للنفس الإنسانية من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد إن {الإنسان} خلق {في أحسن تقويم} وهو كونه مستعداً للوصول إلى المرتبة الرابعة في العلم والعمل، ثم إذا لم يجتهد في الوصول إلى كماله اللائق به فكأنه رد إلى {أسفل سافلين} الطبيعة، وإنما عبر عن العقل الهيولاني بـ: {التين} لضعف شجرته، ولأنه زمان الصبا واللهو والالتذاذ والاشتغال بالأمور التي لا طائل تحتها ولا درك فيها بخلاف زمان العقل بالملكة لقوة المعقولات فيها لكونه بحيث يطلب للأشياء حقائق ومعاني، وهي بمنزلة الزيت، وفي زمان العقل بالفعل يكون قد ازدادت المعاني رسوخاً حتى صارت كالجبل المبارك، وفي آخر المراتب اجتمعت عنده صور الحقائق دفعة بمنزلة المدينة الفاضلة، ولعلنا قد كتبنا في هذا المعنى رسالة مفردة فلنقتصر في التفسير على هذا القدر من التأويل. ثم إن أكثر المفسرين قالوا: معنى {في أحسن تقويم} في أحسن تعديل شكلاً وانتصاباً.
وقال الأصم: في أكمل عقل وفهم وبيان. والأولون قالوا: لو حلف إنسان أن زوجته أحسن من القمر لم يحنث لأنه تعالى أعلم بخلقه {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وكان بعض الصالحين يقول: إلهنا أعطيتنا في الأول أحسن الأشكال فأعطنا في الآخرة أحسن الخصال وهو العفو عن الذنوب والتجاوز عن العيوب.
ومعنى {أسفل سافلين} قال ابن عباس: أرذل العمر ومثله قول ابن قتيبة: السافلون هم الضعفاء والزمنى ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلاً.
قال الفراء: لو قيل (أسفل سافل) حملاً على لفظ الإنسان كان صواباً أيضاً.
وقال مجاهد والحسن: هو النار ومثله ما قال علي رضي الله عنه: أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ويبدأ بالأسفل فيملأ. وعلى هذا القول تقدير الكلام رددناه إلى أسفل سافلين أي في أسفل سافلين {إلا الذين} الآية. أي الذين استكملوا بحسب القوتين النظرية والعلمية فلهم ثواب دائم غير منقطع. إما بسبب صبرهم على ما ابتوا به من الشيخوخة والهرم والمواظبة على الطاعات بقدر الإمكان مع ضعف البنية وفتور الآلات. أو بواسطة حصول الكمالات لهم. فهذا الاستثناء على القول الأول منقطع بمعنى لكن. وعلى الثاني متصل. ولا يبعد أن يكون أيضاً متصلاً والمعنى. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال الاستطاعة فلهم ثواب جزيل في حالة الشيخوخة والضعف وإن لم يقدروا على مثل تلك الأعمال. فكأنهم لم يردوا إلى أسفل من سفل. ثم خاطب الإنسان بقوله: {فما يكذبك بعد بالدين} يعني فأي شيء يلجئك بعد هذه البيانات إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء، لأن كل مكذب بالحق فهو كذاب، ولا ريب أن خلق الإنسان من نطفة إلى أن يصير كاملاً في الخلق والخلق، ثم تنكيسه إلى حال تخاذل القوى وتقويس الظهر وابيضاض الشعر وتناثره أوضح دليل على قدرة الصانع وحده، ومن قدر على هذا كله لم يعجز عن إعادة مخلوقه بعد تفرق أجزائه. هذا بالنظر إلى القدرة، وأما بالنظر إلى الحكمة والعدالة فإيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء والفرق بين الصنفين واجب. وأشار إلى هذا الدليل بقوله: {أليس الله بأحكم الحاكمين} فأمر المعاد بالنظر إلى القدرة ممكن الوقوع وبالنظر إلى الحكمة والعدل واجب الوقوع.
وقال الفراء: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: فمن يكذبك بالجزاء أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل؟ قالت المعتزلة: قوله: {في أحسن تقويم} دليل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يفعل أفعال العباد في ما فيها من السفه والظلم، ولو خلق ذلك لكان هو أولى بأن يدعى سفيهاً وظالماً. وأجيب بأن خلق السفه لا يلزم منه الاتصاف بالسفه كما أن إيجاد الحركة لا يلزم منه الاتصاف بالحركة. ويمكن أن يقال: نحن لا ندعي لزوم الاتصاف به ولكن ندعي أن خلق السفه نفسه نوع سفه. والجواب الصحيح بعد المعارضة بالعلم والداعي أن يعارض بقوله: {ثم رددناه} فإنه دليل على أنه أضاف الشيء إلى ذاته.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا قرأ السورة قال: بلى وأنا بذلك من الشاهدين». اهـ.